كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال ثعلب: أخبرت عن أبي عبيدة أن رؤبة قال: كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء وظل، وما لم يكن عليه الشمس فهو ظل، وقوله: {ظلاله} أضاف الظلال إلى مفرد ومعناه الإضافة إلى ذوي الظلال ووجه حسنه كون المرجوع إليه واحدًا في اللفظ وإن كان كثيرًا في المعنى وهو قوله: {إلى ما خلق} نظيره {لتستووا على ظهوره} [الزخرف: 13]. أضاف الظهور- وهو جمع- إلى ضمير مفرد لأنه يعود إلى واحد أريد به الكثرة وهو ما تركبون. قال الجوهري: تفيأت الظلال أي تقلبت، وقوله: {عن اليمين والشمائل} قال أهل التفسير ومنهم الفراء: إنه وحد اليمين لأنه أراد واحدًا من ذوات الأظلال، وجمع الشمائل لأنه أراد كلها لأن قوله: {ما خلق الله} لفظ مفرد ومعناه جمع، وقيل: إن العرب إذا ذكرت صيغتي جمع عبرت عن إحداهما بلفظ الواحد كقوله: {وجعل الظلمات والنور} [الأنعام: 1]. {وختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم} [الأنعام: 46]، وقيل: المراد باليمين النقطة التي هي مشرق الشمس وإنها واحدة، والشمائل عبارة عن الانحراف الواقع في تلك الأظلال بعد وقوعها على الأرض وهي كثيرة، وإنما عبر عن المشرق باليمين لأن أقوى جانبي الإنسان يمينه ومنه تظهر الحركة القوية، وكذا جانب الشرق أقوى جوانب الفلك ومنه تظهر الحركة اليومية التي هي أسرع الحركات وأقواها، ويمكن أن يقال: إن الإنسان إذا توجه إلى الشرق الذي هو أولى الجوانب بالاعتبار لشرفه كان الجنوب يمينه والشمال شماله، ولا ريب أن وصول الشمس إلى فلك نصف النهار يختلف بحسب البلاد، وقد يتفق انتقالها من الجنوب إلى الشمال وبالعكس في بلد واحد إذا كان عرضه ناقصًا عن الميل الكلي، ومن المعلوم أن الشمس حين وصولها إلى نصف النهار إن كانت في جنوب سمت الرأس وقع ظلها إلى جانب الشمال، وإن كانت في شماله وقع ظلها إلى الجنوب، فيحتمل أن يراد بتفيؤ الأظلال تقلبها في هاتين الجهتين والله أعلم. أما قوله: {سجدًا لله} فإنه حال من الظلال، ومعنى سجودها انقيادها لأمر الله منتقلة من جانب إلى جانب حسب تحرك النير على نسب مخصوصة ومقادير معلومة ذكرنا بعضها في كتبنا النجومية، وقد نبى المتأخرون على الأظلال مسائل كثيرة منها: الشكل الموسوم بالظلي مع فروعه، وذكر بعضهم في تفسير هذا السجود أن هذه الأظلال واقعة على الأرض ملصقة بها على هيئة الساجد، وقوله: {وهم داخرون} حال أخرى من الظلال، وإنما جمع بالواو والنون لأنهم أشبهوا العقلاء من حيث طاعتها لله سبحانه، وقال جار الله: اليمين والشمائل استعارة عن يمين الإنسان وشماله بجانبي الشيء أي ترجع الظلال من جانب إلى جانب منقادة لله غير ممتنعة عليه فيما سخرها له من التفيؤ، والأجرام في أنفسها داخرة أيضًا صاغرة منقادة لأفعال الله فيها لا تمتنع {ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة} قال الأخفش: أي من الدواب: وأخبر بالواحد كما تقول: ما أتاني من رجل مثله وما أتاني من الرجال مثله.
وقال ابن عباس: يريد كل ما دب على الأرض، والوجه في تخصيص الدابة والملائكة بالذكر أنه علم من آية الظلال أن الجمادات بأسرها منقادة له، فبين في هذه الآية أن الحيوانات بأسرها أيضًا كذلك. ثم عطف عليها الملائكة إما لشرفها وإما لأنها ليست مما يدب ولكنها تطير بالجناحين، وبين النوعين مغايرة لقوله: {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه} [الأنعام: 38]، وعلى قاعدة الحكماء: وجه المغايرة أنها أرواح مجردة ليست من شأنها الحركة والدب. قال جار الله: ومن دابة يجوز أن يكون بيانًا لما في السموات وما في الأرض جميعًا، على أن في السموات خلقًا لله يدبون فيها كما يدب الأناسيّ في الأرض، وأن يكون بيانًا لما في الأرض وحده ويراد بما في السموات الخلق الذي يقال له الروح، وأن يكون بيانًا لما في الأرض وحده ويراد بما في السموات الملائكة، وكرر ذكرهم على معنى والملائكة خصوصًا من بين الساجدين لأنهم أطوع الخلق وأعدلهم، ويجوز أن يراد بما في السموات ملائكتهن، وبقوله: {والملائكة} ملائكة الأرض من الحفظة وغيرهم انتهى كلامه. ثم شرع سبحانه في صفة الملائكة وذكر عصمتهم قال: {وهم لا يستكبرون يخافون} على أنه حال منهم أو بيان لنفي استكبارهم لأن الخوف أثره عدم الاستكبار، وقوله: {من فوقهم} إما أن يتعلق ب {يخافون} والمعنى يخافون ربهم أن يرسل عليهم عذابًا من فوقهم، وإما أن يكون حالًا من الرب أي يخافونه غالبًا قاهرًا، وبحث الفوقية قد تقدم في الأنعام في قوله: {وهو القاهر فوق عباده} [الأنعام: 18]. زعم بعض الطاعنين في عصمة الملائكة أنه تعالى وصفهم بالخوف وحصول الخوف نتيجة تجويز الإقدام على الذنوب، وهب أنهم فعلوا كل ما أمروا به فمن أين علم أنهم تركوا كل ما نهوا عنه؟ والجواب عن الأوّل أنهم إنما يخافون من العذاب لقوله تعالى: {ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم} [الأنبياء: 29]. فمن هذا الخوف يتركون الذنب، وعن ابن عباس أن هذا الخوف خوف الإجلال كقوله: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر: 28]، ولا ريب أنه كلما كانت معرفة جلال الله أتم كانت الهيبة والحيرة أعظم، وعن الثاني أن النهي عن الشيء أمر بتركه، وفي الآية دلالة على أن إبليس لم يكن من الملائكة لأنه أبى واستكبر وإنهم لا يستكبرون، وقد يستدل بها على أن الملك أفضل من البشر بل من كل المخلوقات وإلا لما خصهم بالذكر من بينها، ولخلو بواطنهم وظواهرهم عن الأخلاق الذميمة وانغماس البشر في الدواعي الشهوية والغضبية، ولهذا ورد في حقه {قتل الإنسان ما أكفره} [عبس: 17]، وقال صلى الله عليه وسلم: «ما منا إلا من قد عصى أو هم بمعصية غير يحيى بن زكريا» وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم: «الشيخ في قومه كالنبي في أمته» فضل الشيخ على الشاب لتقادم عهده وطول مدته، ولا شك أن الملائكة خلقوا قبل البشر بسنين متطاولة وقرون متمادية، وأنهم سنوا الطاعة والعبودية ومن سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها، وتمام البحث في هذه المسألة مذكور في أول سورة البقرة، وفي قوله: {ما يؤمرون} دلالة على أن الملائكة مكلفون بالأمر والنهي والوعد والوعيد راجين خائفين.
ولما بين أن كل ما سواه في عالمي الأرواح والأجسام فإنه منقاد خاضع لجلاله وكبريائه أتبعه النهي عن الشرك قائلًا {وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد} فسئل أن التثنية والواحد حيث كانا يدلان على العدد الخاص، فما الفائدة في وصف إلهين باثنين ووصف إله بواحد؟ وأجيب بوجوه منها: قول صاحب النظم أن فيه تقديمًا وتأخيرًا أي لا تتخذوا اثنين إلهين، ومنها أنه كررت العبارة لأجل المبالغة في التنفير عن اتخاذ الشريك، ومنها قول لأهل المعاني إن فائدة الوصف والبيان هي أن يعلم أن النهي راجع إلى التعدد لا إلى الجنسية، ولهذا لو قلت: إنما هو إله ولم تؤكده بواحد سبق إلى الوهم إنك تثبت الإلهية لا الوحدانية، وكيف لا يحتاج المقام إلى التوكيد والأثنينية منافية للإلهية لاستلزام تعدد الواجب كون كل منهما مركبًا من جزأين ما به الاشتراك في الوجوب الذاتي، وما به الامتياز ولكن التركيب يوجب الافتقار إلى البسائط والافتقار ينافي الوجوب، ودليل التمانع أيضًا يعين على المطلوب كما لو أراد أحدهما تحريك جسم معين وأراد الآخر تسكينه، أو قوي أحدهما على مخالفة الآخر أو لا يقوى، أو قدر أحدهما على أن يستر ملكه عن الآخر أو لا يقدر. ثم نقل الكلام عن الغيبة إلى التكلم على طريقة الالتفات قائلًا: {فإياي فارهبون} وقد مر مثله في أوّل البقرة ثم لما قرر وحدته وأنه يجب أن يخص بالرهبة منه والرغبة إليه ذكر أن الكل ملكه فقال: {وله ما في السموات والأرض} فقالت الأشاعرة: ليس المراد من كونها لله أنها مفعولة لأجله ولغرض طاعته لأن فيها المباحات والمحظورات التي يؤتى بها لغرض الشهوة واللذة لا لغرض الطاعة، فالمراد أن كلها بتخليقه وتكوينه ومن جملة ذلك أفعال العباد، ثم قال: {وله الدين واصبًا} فالدين الطاعة، والواصب الدائم، ومفازة واصبة بعيدة لا غاية لها، ويقال للمريض وصب لكون ذلك المرض لازمًا له، وانتصابه على الحال والعامل فيه ما في الظرف من معنى الفعل. قال ابن قتيبة: ليس من أحد يدان له ويطاع إلا انقطع ذلك بسبب في حال الحياة أو الموت إلا الحق سبحانه، فإن طاعته واجبة أبدًا.
ويحتمل أن يكون الدين بمعنى الملة أي وله الدين ذا كلفة ومشقة ولذلك سمي تكليفًا، أو وله الجزاء سرمدًا لا يزول يعني الثواب والعقاب، وقال بعض المتكلمين المحققين: قوله: {وله ما في السموات والأرض} إشارة إلى احتياج الكل إليه في حال حدوثه، وقوله: {وله الدين} أي الانقياد {واصبًا} إشارة إلى أن جميع الممكنات مفتقرة إلى فيض وجوده في حال وجوده لأن الصحيح أن الممكن حال بقائه لا يستغني عن المرحج.
ثم أنكر أن يكون الممكن مع شدة افتقاره إليه يخشى غيره فقال: {أفغير الله تتقون} ثم منّ عليهم بقوله: {وما بكم من نعمة فمن الله} {ما} بمعنى الذي وبكم صلته و{من نعمة} حال من الضمير في الجار، أو بيان لما وقوله: {فمن الله} إلخ.بر، وقيل: {ما} شرطية وفعل الشرط محذوف أي ما يكن، وقال جار الله: معناه أي شيء حل بكم أو اتصل بكم من نعمة فهو من الله، قال الأشاعرة: أفضل النعم نعمة الإيمان والآية تفيد العموم فهو من نعم الله، والنعمة إما دينية وهي معرفة الحق لذاته ومعرفة الخير لأجل العمل به، وإما دنيوية نفسانية أو بدنية أو خارجة كالسعادات المالية وغيرها، وكل واحدة من هذه جنس تحتها أنواع لا حصر لها والكل من الله، فعلى العاقل أن لا يشكر إلا إياه. ثم بين تلون حال الإنسان بعد استغراقه في بحار نعم الله قائلًا {ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون} ما تتضرعون إلا إليه، والجؤار رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة. {ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون} قال جار الله: يجوز أن يكون الخطاب في قوله: {وما بكم} عامًا، ويريد بالفريق فريق الكفرة وأن الخطاب للمشركين و{منكم} للبيان لا للتبعيض كأنه قال: فإذا فريق كافر وهم أنتم، ويجوز أن يكون فيهم من اعتبر كقوله: {فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد} [لقمان: 32]. أقول: وأظهر الوجهين الأول والمعنى أن فريقًا منكم يبقى على ما كان عليه عند الضر في أن لا يفزع إلا إلى لله، وفريقًا يتغير عن حاله فيشرك بالله، ولعل هذه صفة لازمة لجوهر الإنسان ولهذا قال: {ليكفروا} كأنهم جعلوا غرضهم في الشرك كفران النعمة، ويجوز أن تكون لام العاقبة يعني عاقبة تلك التضرعات ما كانت إلا هذا الكفران، والمراد بقوله: {بما آتيناهم} كشف الضر وإزالة المكروه، أو القرآن والشرائع، أو جميع النعم الظاهرة والباطنة التي أنعم الله بها على الإنسان. ثم قال على سبيل التهديد وبطريقة الالتفات نظرًا إلى أوّل الكلام {فتمتعوا فسوف تعلمون} عاقبة كفركم ومثله في الروم كما سيجيء، وأما في العنكبوت فإنه قال: {ليكفروا بما أتيناهم وليتمتعوا} [الآية: 66]. بالعطف على القياس. ثم حكى نوعًا آخر من قبائح أعمال بني آدم فقال: {ويجعلون لما لا يعلمون} الضمير الأوّل للمشركين والثاني قيل لهم وقيل للأصنام التي لا توصف بالعلم والشعور، ورجح الأوّل بأن نفي العلم عن الحي حقيقة وعن الجماد مجاز، وبأن جمع السلامة بالعقلاء أليق، وقد يرجح الثاني بأن الأوّل يفتقر إلى الإضمار كما لو قيل: ويجعلون لما لا يعلمون في طاعته نفعًا ولا في الإعراض عنه ضرًا، وقال مجاهد: يعلمون أن الله خلقهم ويضرهم وينفعهم ثم يجعلون لما لا يعلمون أنه يضرهم {نصيبًا} أو يجعلون لما لا يعلمون إلاهيتها، أو السبب في صيرورتها معبودة، والمراد بجعل النصيب ما مر في الأنعام في قوله: {وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا} [الأنعام: 136]، وقيل: البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي. عن الحسن: وقيل هم المنجمون الذين يوزعون موجودات هذا العالم على الكواكب السبعة فيقولون لزحل كذا وكذا من المعادن والنبات والحيوان، وللمشتري كذا إلى آخر الكواكب. ثم أوعدهم الله بقوله: {تالله لتسئلن عما كنتم تفترون} على الله من أن له شريكًا وأن الأصنام أهل للتقرب إليها مع أنه لا شعور لها بشىء أصلًا، أو المراد بالافتراء قولهم هذا حلال وهذا حرام من غير إذن شرعي، أو قولهم أن لغير الله تأثيرًا في هذا العالم، ومتى يكون هذا السؤال؟ قيل: عند القرب من الموت ومعاينة ملائكة العذاب، وقيل: في القبر، والأقرب أنه في الآخرة وهذا في هؤلاء الأقوام خاصة كقوله: {فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون} [الحجر: 29]. في الأمم عامة.
قوله: {ويجعلون لله البنات} نوع آخر من القبائح وكانت خزاعة وكنانة تقول الملائكة بنات الله. قال الإمام فخر الدين الرازي: أظن أن ذلك لأن الملائكة يستترون عن العيون كالنساء، ومنه إطلاق التأنيث على الشمس لاستتارها عن أن تدرك بالأبصار لضوئها الباهر ونورها القاهر. {سبحانه} تنزيه لذاته عن نسبة الولد إليه أو تعجب من قولهم، ومحل {ما} في قوله: {ولهم ما يشتهون} إما الرفع على الابتداء، أو النصب أي وجعلوا لهم ما يشتهون يعني البنين، وأبى الزجاج جواز النصب وقال: لأن العرب لا تقول جعل له كذا وهو يعني نفسه وإنما تقول جعل لنفسه كذا. فلو كان منصوبًا لقيل: ولأنفسهم ما يشتهون. ثم ذكر غاية كراهتهم للإناث التي جعلوها لله تعالى فقال: {وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه} أي صار {مسودًّا} ويحتمل أن يكون استعمل {ظل} لان وضع الحمل يتفق بالليل غالبًا فيظل نهاره مسود الوجه {وهو كظيم} مملوء غمًا وحزنًا وغيظًا على المرأة. قال أهل المعاني: جعل اسوداد الوجه كناية عن الغم والكآبة لأن الإنسان إذا قوي فرحه انبسط الروح من قلبه ووصل إلى الأطراف ولاسيما إلى الوجه لما بين القلب والدماغ من التعلق الشديد فاستنار الوجه وأشرق، وإذا قوي غمه انحصر الروح في داخل القلب ولم يبق منه أثر قويّ على الوجه فيتربد الوجه لذلك ويصفر أو يسود {يتوارى} يستخفي {من القوم من سوء ما بشر به} من أجل سوء المبشر به ولم يظهر أيامًا يحدث نفسه ويدبر فيها ماذا يصنع بها وذلك قوله: {أيمسكه} أي يحبسه {على هون} ذل وهوان.
والظاهر أن هذا صفة المولود أي يمسكها على هوان منه لها، وقال عطاء عن ابن عباس: إنه صفة الأب أي يمسكها مع الرضا بهوان نفسه {أم يدسه في التراب} أي بيده، والدس إخفاء الشيء في الشيء، وإنما ذكر الضمير في {يمسكه} و{يدسه} باعتبار ما بشر به. كانوا مختلفين في قتل البنات فمنهم من يحفر الحفيرة ويدفنها إلى أن تموت، ومنهم من يرميها من شاهق جبل، ومنهم من يغرقها، ومنها من يذبحها، وكانوا يفعلون ذلك تارة للغيرة والحمية، وأخرى خوفًا من الفقر والفاقة ولزوم النفقة. روي أن رجلًا قال: يا رسول الله والذين بعثك بالحق ما أجد حلاوة الإسلام وقد كانت لي في الجاهلية ابنة وأمرت امرأتي أن تزينها وأخرجتها، فلما انتهيت إلى وادٍ بعيد القعر ألقيتها فقال: يا أبتي قتلتني. فكلما ذكرت قولها لم ينفعني شيء. فقال صلى الله عليه وسلم: «ما في الجاهلية فقد هدمه الإسلام وما في الإسلام يهدمه الاستغفار»، ولا ريب أن الأنثى التي هذا محلها عندهم كانت في غاية الكراهية والتنفير ومع ذلك أثبتوها لله المتعالي عن الصاحبة والولد فلذلك قال: {ألا ساء ما يحكمون للذين لا يؤمنون بالآخرة} ولهذا يقدمون على القتل والإيذاء {مثل السوء} وصفة السوء وهي الحاجة إلى الأولاد الذكور وكراهة الإناث ووأدهن خشية الإملاق والتزام الشح البالغ {ولله المثل الأعلى} وهو أضداد صفات المخلوقين من الغنى الكامل والجود الشامل {وهو العزيز} الذي لا يغالب فلا يستضر بأن ينسب إليه ما لا يليق به {الحكيم} في خلق الذكور والإناث أو في الوعيد على قتل البنات. قال القاضي: إن هؤلاء المشركين استحقوا الذم بإضافة النبات إلى الله وإنه أسهل من إضافة الفواحش والقبائح كلها إليه وهذا شأن المجبرة، وأجابت الأشاعرة بأنه ليس كل ما قبح منافي العرف فإنه يقبح من الله. ألا ترى أن رجلًا لو زين إماءه وعبيده وبالغ في تحسين صورهن وتقوية الشهوة فيهم وفيهن، ثم جمع بين الكل وأزال الحائل والمانع فإن هذا بالاتفاق حسن من الله تعالى وقبيح من كل الخلق، فعلمنا أن التعويل على هذه الوجوه المبنية على العرف إنما يحسن إذا كانت مسبوقة بالدلائل القطعية اليقينية، وقد ثبت بالبراهين القطعية امتناع الولد على الله تعالى فعلى جرم حسنت تقويتها بهذه الوجوه الإقناعية.
أما أفعال العباد فقد ثبت بالدلائل اليقينية أن خالقها هو الله تعالى فكيف يمكن إلحاق إحدى الصورتين بالأخرى والله أعلم. اهـ.